Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
فلسفة تحليل نفسي

دروس تأملات مقالات

المثال في درس الفلسفة

 

المثال في درس الفلسفة، دوره وقيمته

Pierre Hidalgo

Mémoire professionnel


ترجمة: عبد السلام أولباز

أستاذ مادة الفلسفة

ثانوية محمد السادس ورززات

مقدمة

غرض هذا البحث هو تحديد دور المثال وقيمته في تدريس الفلسفة. يحتل المثال مكانة أساسية في تدريس هذه المادة، في المحتوى والكتابة الإنشائية والنصوص الفلسفية.  يصعب تجاوز المثال في الفلسفة- اللهم إلا إذا اعتبرنا الفلسفة مادة مجردة ومنفصلة عن الواقع. لا يمكننا أن ننكر الطابع المجرد للعديد من الصفحات في الفلسفة، ولكن هذه الصفحات تبذل جهدا مشهودا لتوضيح وإبراز الفكر الذي تنتجه."1. فكيف يمكننا أن نعطي المعنى والدلالة للأفكار بدون تمثيلها ببعض الحدوس المنهولة من بعض التجارب الممكنة؟". كما أنه لا وجود لمسار فلسفي حقيقي لا يبدأ بالدهشة أمام الأشياء الأكثر بساطة أو الأكثر ألفة، حتى عندما نريد أن نبين بأن الواقع نفسه هو في غاية التعقيد. فلا قيمة لأي فكر إن لم يكن متجذرا في العالم.

يفضل رهان البساطة في درس الفلسفة على الإغراق في التحديدات الممعنة في الغموض. للمثال أهمية كبيرة إذن، ما دام أن الإيضاح المادي يتحدث بقوة مع خيالنا ويمكن من إنارة الفكر وإبرازه. نؤكد بأن الأمر لا يتعلق بمبادلة المثال بالقاعدة، أو السعي إلى البرهان بالرجوع إلى المثال فحسب، وهو خطأ شائع في عدد من إنشاءات التلاميذ، بل على العكس. للمثال، بكل بساطة، وظيفة تدعيم البرهان وإنهائه بصيغة ما. فكيف يمكننا إفهام التلاميذ طبيعة المسار التجريبي، بكل معقولية، دون أن نحيل على تجربة ممثلة لوجهة النظر هذه. كتلك الخاصة ب “أرانب" كلود برنار؟

نقترح هنا أن نحدد في البداية المثال وأن نبين صفته الفلسفية، ثم نفحص بشكل ملموس المكانة التي منحه إياها كبار الفلاسفة، لنتساءل فيما بعد حول الكيفية التي يمكن أن يوظف فيها في الدرس الفلسفي وفي الأخير سنقدم توجيهات حول المكانة التي يجب أن يحتلها في إطار ممارسة الإنشاء الفلسفي.

  1. تعريف المثال ووضعيته في الفلسفة

ما هو المثال؟

المثال حالة خاصة، حدث تجريبي يمكن من إبراز فكرة أو مفهوم لهما طابع مجرد أو عام. لا يمكن للمثال أن يعوض، في أي حال من الأحوال، الفكرة أو المفهوم وإنما يجب استدعاؤه من طرفهما. لذلك فإن أي تحليل يتطلع إلى الإثبات بواسطة المثال، وإن سير بشكل جيد منهجيا، لا يمكن أن يكون إلا خاطئا من الناحية المنطقية. يمكنني، مثلا، أن أعطي مثالا للأعداد الفردية بعد تحديد خصائصها. ولكن عددا فرديا معينا (3، 5 ،7) لا يمثل كل الأعداد الفردية.

إن الفهم l’entendement، في الفلسفة، هو الذي يطلب ويفرض الأمثلة دائما. لذلك فإن المثال له وظيفة تدعيم الفكر وإتمامه بصيغة ما. فهو يوازن الحجاج ويدعمه، ولكن دون أن يعوضه. وإلا فإن الاستدلال سيتراوح بين الثانوي والاستثنائي‘، في هذه الحالة.

ومع ذلك فإن وظيفة الإيضاح في المثال تبدو غير واضحة. فكما يشير chiche في مقال حديث "يعني فعل الإيضاح، كما يعلم الجميع، جعل الشيء واضحا وظاهرا، وهو المعنى الأولي لفعل أوضحlustrare ". لا يلزم إذن أن يكون التوضيح مجرد صورة بسيطة لا يضيف أي شيء جديد للنص الذي يصطحبه، كما هو حال الإيضاح بالنسبة للطفل. ذلك أن وظيفة المثال هي إنارة العقل، بشكل تراجعي، يمكنه من استيعاب المفهوم.

يتحدد الاستعمال المشروع للمثال من خلال قدرته على دعم القاعدة وتأكيدها. إذ يجب ألا يكون مجرد شيء ثانوي بل أن تكون له قيمة تمثيلية، أي أن ينعكس المفهوم من خلاله دون أن يكون هو المثال الوحيد لوجود أمثلة عديدة ممكنة دائما لتوضيح نفس الفكرة. هذا ما ينطبق على المثال الطرازي الذي يمثل القاعدة جيدا بشرط ألا نمسك منه إلا ما هو مشترك بين جميع الأمثلة من ذات الصنف.

إذا أخذنا، في درس ما عن العلم، كمثال لقانون علمي قانون سقوط الأجسام، سنبين، كما هو شأن أمثلة من هذا النمط، بأن هذا الأخير يقيم علاقات ثابتة بين ظاهرتين أو أكثر، وهو نفسه تعريف القانون العلمي. فلن تكون للمثال إذن أي حمولة فلسفية إلا إذا كان قابلا لأن يكون كونيا. يبدو لنا بشكل جيد هنا ما لا يجب علينا غض الطرف عنه أبدا: لا يعتد بالمثال إلا بقيمته داخل تحليل يتيح معرفة قانون أو قاعدة، يطبقها أو يؤكدها.

مع ذلك، فلو كان المثال يأخذ قيمته من القاعدة ويندرج ضمنها، يمكنه أن يتناول كذلك كمثال-مضاد، ويفند بالتالي القوانين الخاطئة والتعميمات المتعسفة والبراهين العرجاء واليقينيات التي تصدر من غير حكم. ففي المسار السقراطي، يتعلق الأمر في الغالب، ومن خلال الحوار، بالارتقاء إلى مستوى الفكر عبر تفنيد التعريفات العشوائية بواسطة أمثلة مضادة. يعلم كل واحد منا التعريف المضحك للجميل المقترح من لدن هيبياس، السفسطائي المعتاد، في المحاورة التي تحمل اسمه:" الجميل، هو امرأة جميلة". إن التسرع لا يفسر هنا كل شيء بحيث يمكن أن نشك في ذكاء هيبياس. أولا، هناك الخطأ المنطقي حيث أن المفهوم المراد تحديده يوجد في التعريف، ولكن بالخصوص، عوض أن نقترح تعريفا عاما، نكتفي بمثال خاص. من هنا، لم يكن لسقراط أي مشكل في ربك هيبياس من خلال تنبيهه إلى تواجد أواني طبخ جميلة، ما سيدفعه إلى الاعتراف بنسبية أمثلة الجمال: إذا كانت المرأة الجميلة تتفوق في الجمال على إناء جميل فستكون قبيحة بالمقارنة مع إلهة. سيخسر السفسطائي رهانه. فقد كان عليه أن يهتم بالجمال في عموميته وليس بالجمال في خصوصيته. فمن ماهية الجمال يأخذ الجمال الخاص كل معناه." أو ليس في هذا يكون المثال شيئا آخر غير الإيضاح؟ إنه في الحقيقة نموذجparadigme. هنا يكمن كل الاختلاف بين المثال كما يتصوره هيبياس ويستعمله (حيث يختلط الحدث بالفكرة) والمثال كما يتصوره سقراط ويستعمله (حيث يقود الحادث إلى الفكرة بالضبط ولا يوضحها)، أي بين السفسطة والفلسفة"3. يشكل النموذج، من هذه الزاوية، في الحوارات تمرينا موجها لتدريب الذهن على المنهج الذي عليه إتباعه في تحليل المفاهيم الأساسية. فبالانطلاق من موضوع بسيط، نثير بنية ستتواجد داخل موضوع أكثر صعوبة.

سنخصص، في الجزء الموالي، دراسة أكثر دقة للنموذج عند أفلاطون. نفس المسار يوجد عند كانط، خاصة في المقال المعنون ب “ماذا يعني التوجه داخل الفكر؟". سيظهر كانط، منطلقا من المعنى البسيط للتوجه، أي التوجه في المكان، الخصائص الأساسية لمفهوم التوجه، لكي يطبقه فيما بعد على الفكر.

المثال في الأخلاق

تواجهنا مشاكل، في استعمال الأمثلة في المجال العمليl’exemplarité pratique. إذ ماهي قيمة الأمثلة في الميدان الأخلاقي مثلا؟

يجيب كانط على هذا السؤال بدون لبس:" إن أسوأ خدمة نقدمها للأخلاق هي عندما نريد أن نشتقها من الأمثلة. لأن أي مثال يقترح علي يجب أن يتعرض هو نفسه إلى الحكم بحسب مبادئ الأخلاق لنعرف ما إذا كان يستحق أن بالفعل أن يستخدم كمثال أصلي، أي كنموذج."4. إن تقليد نموذج ما يعني التواجد في وضعية تبعية وبالتالي منع التفكير من اكتشاف ذاته، إنه التواجد من جهة الأحكام المسبقة. إن الاستقلال يمر دائما إذن، عبر تمثل واضح للقانون الذي يجده العقل في ذاته والذي يمنحه لنفسه. إن الحرية هي إذن، في الخضوع لهذا القانون لأنه قانون عقلي الخاص. وعليه فإن كل سلوك تمثيلي و" حتى الإنجيل المقدس يجب أن يقارن بداية مع مثالنا عن الكمال الأخلاقي قبل أن نعترف له بالقدسية"5

يشير، Victor Delbos إلى أن “تشخيص المبدأ الخير، حسب الدين، يتم حدود العقل البسيط، في صورة ابن الله لحاجة الإنسان للتعبير من خلال مثال idéalعن فكرة الكمال الأخلاقي؛ بيد أن هذه الفكرة هي التي تعطي، في نهاية التحليل، القيمة الملكية للنموذج." نلفي إذن في المجال التطبيقي نفس المتطلبات التي أثرناها سابقا فيما يخص المثال عموما: فالخير لا يرتبط بما يلاحظ امبريقيا، وإنما بالفكرة. من وجهة النظر هذه، كل عملية تربوية تروم ترسيخ أمثلة خارجية تخطأ هدفها. على المربي، بالعكس، أن يجتهد في القيادة نحو الفكرة باستعمال أمثلة بسيطة، أمثلة سوف توضح، من جهتها، بالفكرة. في قسم الفلسفة، يكون الاستعمال الجيد للأمثلة هو شرط نجاح هذا التدريس، وشرطا ضروريا لكل العمل التربوي: أن نجعل عقل التلميذ يخرج من سلبيته، من" حالة القصور" «l’état de tutelle» حالته الأولى، لأجل أن يلج عالم الاستقلالية.

2.مكانة المثال في الأعمال الفلسفية الكبرى.

المثال عند سارتر

إذا كان هناك من مؤلف عرف كيف يطبع الأذهان ببعض الأمثلة الموجهة لتوضيح المفاهيم الكبرى في فلسفته فهو سارتر. من منا لا يعرف المثال الشهير عن" نادل المقهى" أو مثال" الفتاة المغناج" اللذان وظفا لتوضيح مفهوم “الاعتقاد الزائف «mauvaise foi»؟

" الاعتقاد الزائف"، حسب سارتر، هو الكذب على الذات، الذي يتجلى في قلب مستويي وجودنا الواعي، أي التعالي transcendanceو ال تصنعfacticité.، التعالي يتمظهر بصيغة التصنع والتصنع بصيغة التعالي. هكذا فكل تصرف يبرر التصنع مع السعي إلى الحفاظ على شرف التعالي هو اعتقاد زائف.

يعني سارتر بالتعالي: “حركة إعدام الوعي". أي هروب الوعي خارج الذات، واستحالة التقائه بموضوعه. فرغم أنه يرغم على الخروج من ذاته ليتجه نحو الموضوعات فإن الوعي لا يلتقي بها مطلقا، بالنظر إلى أنه سيفقد نفسه كوعي، في حالة العكس. لذلك، إذا كان الوعي يكون العالم، بشرط معرفته الجيدة بأن الموضوع المستقصد ليس هو، فإنه يتكون بذاته كما لو أنه ليس هو هذا العالم. يعلي الوعي العالم الذي يعليه بدوره. تكون النتيجة دراماتيكية جدا بالنظر إلى أن الوعي بالذات يعاش كفشل مستمر، يعبر عنه عبر استحالة لقاء أصيل مع العالم وخاصة وعي الآخرين. إن هذا هو السبب الذي يجعل الوعي يلجأ، لكي يتجنب القلق الذي يترتب عن" إعدام الوعي" هذا، إلى الاعتقاد الزائف.

غير أنه إذا كان الوعي حرية في أساسه، فإن انبثاقه يشكل حدثا بنفسه. وهذا ما يعنيه سارتر بكلمة facticité التصنع. يجب أن نفهم من هنا عددا من العناصر الموضوعية، لم يخترها الإنسان ولكنها مفروضة عليه: مكانه في العالم، عصره، بكل ما يكونه ولم يساهم في بنائه، جسمه والموت الذي لا مهرب منه، وأيضا ضرورة العلاقة مع الغير. هناك إذن سلبية للوعي إزاء تصنعه. يمكنه، علاوة على ذلك، أن يتلاعب به وهو ما يحدث في الاعتقاد الزائف: الاعتماد على التصنع لتبرير الأفعال، والبحث لها عن عذر للحد من مسؤوليته أو تجاوزها نهائيا، أي “بنسيان" تعاليه.

نسجل، عند هذه النقطة من العرض، بعض الملاحظات: فبالقياس إلى ما تقدم، لدينا إحساس بأننا كنا واضحين بما فيه الكفاية كي يدرك ما هو أساسي في نظرية سارتر عن الاعتقاد الزائف من طرف قارئ منتبه ولديه تكوين يسير في الفلسفة، مع وعينا بأن هناك أشياء كثيرة يمكن بسطها. لكن كيف سيكون الأمر، بالضبط، بالنسبة لقسم نهائيclasse de terminale يكتشف الفلسفة وسارتر في الوقت ذاته. فالنتيجة، لمن اعتاد تدريس الفلسفة في الثانوي، لا تقبل الشك. هناك حظوظ كثيرة لكي يضطرب التلاميذ، مع أن الاضطراب وصف ضعيف. في هذه الشروط يكون اللجوء إلى المثال ضروريا لأننا سنجازف، في حالة العكس، بفقدان كل المستمعين. نفسه سارتر شعر بالأمر، لأنه في هذه اللحظة بالذات سيمنح الجسد لمفهومه باللجوء إلى سلسلة من الأمثلة أولها مثال “الفتاة المغناج".

"هذه، على سبيل المثال، امرأة استسلمت عند أول لقاء. هي تعلم جيدا النوايا التي يغديها نحوها الرجل الذي يتكلم معها. وتعلم أن عليها، عاجلا أم آجلا، أن تأخذ قرارا. غير أنها لا تريد أن تشعر بالعجلة: وستحرص فقط على ما سيمنحه موقف رفيقها من أشياء محترمة[...].

لكن ها هي ذي يدها تمسك. هذا الفعل من لدن مخاطبها قد يغير من الموقف بالدعوة إلى قرار سريع. فإبقاء هذه اليد يعني انقياد الذات إلى نزوة عابرة، إنه الانخراط. نزعها يعني قطع هذا الود المزعج والعابر الذي يجعل الساعة حلوة. سيتم تأخير لحظة القرار لأطول فترة ممكنة. نعرف ما سيحدث، حينئذ: تترك المرأة الشابة يدها دون أن تدري أنها تتركها. لا تدرك ذلك لأنها منخرطة في الوضعية الآن بكامل كيانها. تقتاد الفتاة مخاطبها حتى الحدود القصوى للتأمل العاطفي، تتحدث عن الحياة، عن حياتها، حيث تتواجد في بعدها الأساسي: شخصا، وعيا. وفي هذا الوقت، يكتمل الطلاق بين الجسد والروح، اليد مرتاحة بين يدي رفيقها الساخنتين: غير مستسلمة ولا مقاومة: كشيء."6

ما الذي يدعو هذا المثال إلى التفكير فيه؟

هناك ربح مهم فيما يخص تحليل الاعتقاد الزائف كما تبيناه نظريا. إذ تكتسب النظرية، بانخراطها داخل المثال، حضورا لا يمكنها أن تناله بمفردها. من وجهة النظر هذه، تتكلم إلينا النظرية، بتجسدها.

نؤكد منذ الآن، بأن هذا المثال لم يختر صدفة. أول فضل له هو أنه يعنينا لكونه يتموقع على صعيد وجودي. فكل واحد تمكن من معايشة أو عني في كل الحالات، بلعبة الإغراء التي يلمح إليها سارتر. إن فن المثال يمر أولا بتمثيلية الموقف المختار. من هذه الوجهة، تشكل الحياة اليومية خزانا هائلا للأمثلة "الناطقة". لأن الأمثلة النادرة أو قليلة الدلالة لها كامل الحظوظ لكيلا تفيد شيئا. وهو حال الأمثلة المغرقة في الذاتية لأنها، إذ تحيل على الأفراد الذاتيين ولا تعني الغالبية، ليست مناسبة. أما عندما يتعلق الأمر بنادل مقهى يمر عبر موائد حانة بكل خفة، فإن الأمر يهمنا مباشرة.

هذا المتطلب الأول ليس الوحيد بالطبع. إذ يجب "الاشتغال" فيما بعد على المثال بكيفية يتواجد فيها المفهوم وتحليله النظري داخله. هكذا وبالعودة إلى “الفتاة المغناج"، فقد عني سارتر، بالطبع، بتتبع المثال بحسب نظريته عن “الاعتقاد الزائف".

قد يبدو الموقف عاديا، في الوهلة الأولى. لكن ما إن نتمعن فيه، نجد أن لا شيء ترك للصدفة. نعم هنا، في البداية، امرأة تتغنج، يتبعها رجل. تتبدى ازدواجية في الوعي منذ هذه اللحظة. تريد أن تغري، هذا صحيح، ولكي تصل إلى أهدافها، عليها أن تبدو لرفيقها كامرأة مطلوبة: الوقفة، الحركات، النظرات، وكل جسمها مطلوب. غير أنه في الوقت ذاته، تدفع الرغبة كرغبة، وجسمها تضعه بين قوسين ورغبة الآخر فيها تحول إلى اهتمام، إلى "احترام". تِؤخذ العبارات ذات المعنى المزدوج، الكثيرة في أمثال هذه الحالات، دائما في معناها الأول. مثل" أقدرك كثيرا"(مثال داخل المثال، لنسجل ذلك)." فالخلفية الجنسية" لهذه العبارة تعزل، وهي تعلم جيدا ماذا يعني ذلك، من منظور مستقبل قريب. غير أن الوقت ذاته يختزل، كما يشير سارتر، في" حاضر صارم" المرأة الشابة ترغب ولكنها لا تريد في الوقت نفسه أن يرغب فيها. في جميع الحالات لا تريد رغبة “ناضجة وعارية" ستلفيها غير محتملة. تشيء الفتاة موقف ر فيقها المحترم، تجمد اللحظة وتعتبر بأن الاحترام ميزة تنتمي إلى الموضوع-ال إنسانl’objet-homme الذي أمامها، مثلما أن المائدة دائرية أو مربعة. إن الإشباع الذي تحصل عليه يستدعي في الواقع مكونين متناقضين: الاحترام الذي هو اعتراف بشخصها أي ما يترتب عن حريتها، لكن، في الوقت ذاته، يجب على الرغبة التي عليها ألا تعبر عن نفسها أن تخترق هذه الحرية لتمسك بالتصنع الجسدي.

ينتج عن هذا،" الطلاق بين الجسد والروح". يدها في يد الرفيق “منسية" تماما، وكأنها ليست منها. وتعاليها، في الآن نفسه، متقد ومعتبر.

في الوقت نفسه يكون تعالي رفيقها منزوع السلاح وقد اختزل إلى مجرد شيء. هنا يغدو التعالي اصطناعا ويغدو الاصطناع تعاليا. هكذا هو الاعتقاد الزائف الذي هو، حسب سارتر،" فن تشكيل المفاهيم المتناقضة"، هدفه تغطية الواقع الإنساني في مكوناته الأساسية، وخاصة الحرية، الصعبة التحمل، ولكن أيضا، تصنع الواقع في العالم.

في هذا المثال لاشي يمكن الاستغناء عنه. كل تفاصيل الحالة ذات أهمية، وتحيل بدقة إلى مفهوم “الاعتقاد الزائف" وتوضحه. وسيتمكن القارئ أو المتلقي أو التلميذ من تملكه.

ربح آخر مهم، فيما وراء العرض النظري للمفهوم، يتعلق بالتلاميذ وعلاقتهم بالفلسفة. فهذا المثال يمكنهم من الربط بين حياتهم والفلسفة، بشرط أن يتكلم المثال إلينا بقوة ويسمح بترسيخ المفهوم ضمن تجربتنا الأكثر اعتيادية.

ليس للمقاصد الفلسفية أي أهمية عندما تنفصل عن الحياة. ففي لحظة ما، وبينما يشعر التلميذ بحالة اغتراب أمام خطاب أستاذ الفلسفة، تلتقط أذنه الشاردة بعض عبارات تشير إلى بعضها البعض: يتعلق الأمر في الغالب بمثال ينزعه من سلبيته، ويعنيه. يمكننا في حالة سارتر أن نذهب بعيدا: فمفهوم الاعتقاد الزائف تحمله هذه الأمثلة، إلى حد يصعب معه الإحالة إلى هذا المفهوم بدون الرجوع إليها. وحيث أن المفهوم والمثال يتقاطعان بشكل جيد فإنهما يغدوان تبادليين. فكلما تحدثنا عن" النادل" أو" المغناج" أو “اللواطي"، نحال إلى مفهوم "الاعتقاد الزائف" عند سارتر. ومع ذلك فإن شهرة هذه الأمثلة فيها مجازفة، تلك المجازفة الملازمة لكل تبسيط.

من الواضح جدا، أن هذه الأمثلة يجب أن تدرس في "الوضعية" وداخل سياقها، الذي يمكن من استبانة كل المشروع الفلسفي لسارتر. لكن، مع الأسف، كثيرة هي الخطابات الاختزالية التي تنفرد بهذه الأمثلة دون أن تفهمها بل تبتر معانيها.

النموذج عند أفلاطونLe paradigme chez Platon

يتصل استعمال النموذج في محاورات أفلاطون بإجراء جدلي. "النموذج تمرين. هذا هو الدرس الأول والأكثر وضوحا الذي تقدمه لنا النصوص السابقة (السياسة، 277د-279ب). بل إن الغريب يلح عليه:" تمرين قبلي". على النموذج، لأنه يسبق البحث المتعلق بأحد "الموضوعات الكبرى"، أن يعود التلميذ ويمرنه على الطريقة التي يجب تطبيقها في دراسة هذه الموضوعات."7

يتعلق الأمر، في جميع الحالات، بجلب المتعدد إلى الوحدة والوصول إلى "النظرة الكلية" التي يمنحها التعريف. ويتعلق الأمر، كذلك، بتحديد الطريق الذي يِؤدي إلى التعريف. في هذه الحالة الأخيرة يكشف المثال عن أهميته. علينا أولا أن نتمرن على "موضوع صغير" يمكن استيعابه بسهولة من طرف المتعلم قبل أن نطبق نفس الطريقة على "موضوع كبير"، أكثر تعقيدا بالضرورة. وهكذا نجد في الجمهورية أن" سقراط، وهو يدفع تراسيماك- الخصم اللدود للعدالة-للاعتراف بأن العادل خير وحكيم، يبدأ برهانه بالحديث عن الموسيقي. تراسيماك ليس موسيقيا. ويتحدث عن الموسيقى بدون حب. أي أن الحجج التي لديه ضد العدالة تعوزه ضد الموسيقى. لذلك يتفق، عن إرادة، على أن الموسيقي الجيد إنسان حكيم. وحيث أن العادل يتشابه مع الموسيقي في نواحي كثيرة، فيجب أن نقبل بالضرورة، بأن العادل رجل حكيم هو أيضا8.

يفيد اختيار “موضوع ثانوي" في تهدئة النقاش بحيث ينقاد المخاطب إلى استعمال عقله بحرية وبالتالي محاربة التجاوزات المنطقية الحتمية التي تحبسه فيها أحكامه المسبقة. هكذا سوف يكتسب ذهنه طريقة في الاستدلال الصحيح، الذي غايته جلب الوحدة إلى الشتات، والذي يمكنه تطبيقه على موضوعات أساسية كالعدالة والفضيلة أو الجمال كذلك. يقوم "التشابه" بين الموضوع الثانوي والموضوع الرئيسي في إبراز وجه شبه بينهما. هكذا الأمر في الحكمة، المشتركة بين الموسيقي والعادل. بيد أننا نسجل بأن " النموذج يفيد في إبراز وجه الشبه ولا يفيد إلا في ذلك". بعبارة أخرى، عندما ننتقل إلى مناقشة الموضوع الجدي “الموضوع الكبير" لا نهتم، عندئذ بالموضوع الثانوي.

ماهي العلاقة الموجودة بين النموذج والمثال كما حددناه سلفا؟ أولا، نسجل بأن الفكرة العامة هي التي تتحكم في كلتا الحالتين. النموذج يسمح برفع المثال إلى الفكرة العامة لتظهر واضحة جلية. ليس النموذج، في الواقع، إلا صيغة مساعدة في استعمال المثال، أي الحالة الخاصة. يمكن النموذج، عند أفلاطون، من بناء الاستدلال بواسطة القياس، الذي يؤدي إلى الانتقال من الأقل أهمية إلى الأكثر أهمية ومن الخاص إلى العام. يعطي هذا المسار فائدة عظيمة على الصعيد البيداغوجي، بالنظر إلى أن نقطة الانطلاق في استدلال معين توجد دائما في منطقة مألوفة للتلميذ أو المتعلم، وتترقى بدرجات نحو التجريد، حيث نلاحظ أن قدرة التفكير عند التلميذ تستيقظ. وعلى شاكلة عبد مينونMénon، يمكنه أن يلج إلى وقائع جد معقدة، وبالتالي، يمكننا القول بأنه لا يوجد اختلاف في الطبيعة بين النموذج والمثال، ولا حتى في الدرجة، مادام أن النموذج هو استراتيجية للمثال، تحترم جيدا صفته الفلسفية. ببساطة، وبخلاف سارتر، الذي يستعمل المثال ليمنح جسدا لنظريته، ينطلق النموذج من المثال ليكشف عن الفكرة. يحتوي المثال، في هذه الحالة، على شيء من الفكرة، حتى وإن تعلق الأمر بتزاوج غير تام. في نفس الوقت، يتشابه المثال مع إجراء برهاني استقرائي، لأنه يسمح بالانتقال من الخاص إلى العام أو إلى التعريف الكلي. إن استراتيجية المشابهة الخاصة بالنموذج، لها، دلالة بلاغية، أيضا، لأنها تسمح بتولد الاقتناع. وهكذا، وعقب مراحل متتالية، انطلاقا من نموذج “الصيد بالصنارة" كنوع خاص من القنص، سينتقل الغريب L’Etranger إلى تعريف السفسطائي، في محاورة بنفس الاسم، عبر قيادة تيتيت Théétète إلى القبول بأن كلا من السفسطائي والقناص قناصان معا:

"الغريب : باسم الآلهة، هل أنكرنا بأن هذا الإنسان قريب من الآخر؟

تيتيت: من القريب من من؟

القناص يشبه السفسطائي.

-كيف؟

-قناصان هكذا أراهم.

-ماذا يقنص هذا الأخير، لأننا قلنا ما يقنصه الآخر؟"9

من الصنارة، سيقود الغريب تيتيت إلى الاعتراف بأن السفسطائي قناص للشباب الأغنياء. هذه ليست إلا مرحلة، طبعا، وسوف يغتني التعريف تدريجيا. سنكتشف، بذات الإجراء دائما، بأنه مفاوض ومحارب ومطهر. غير أن المرحلة الرئيسة هي اللحظة التي سنكتشف فيها صنف السفسطائي الحقيقي:" إنه مقلد"، لأن" الإنسان الذي يزعم بأنه يعرف كل شيء ويمكنه أن يعلم كل شيء للغير مقابل مال قليل في زمن قصير، ألا يجب الظن بوجود لعب هنا؟ والحال أن الصيغة الأكثر متعة في اللعب، هي المحاكاة." 10

يجب أن نسجل في الأخير أن" النموذج مرتبط بشكل وثيق بالجدل، إلى حد الاختلاط"11. فالمجادل يعرف" بأن الإعداد القبلي يكلف "عملا غير محدود"، وأن الصعود إلى المبدأ الأعلى متعلق بالقوى الإنسانية و"يتطلب جهدا مستمرا. وهكذا، فإن دراسة لموضوعات الكبرى ذاتها ليست هدفا في حد ذاته. فنحن نطرح قضايا حول الفضيلة، السياسة، الكون، بشكل مشابه دوما للأطفال الذين ينهمكون في تفسير هذه الكلمة الصعبة أو تلك، وحتى إذا ما نجحوا فإنهم لا يعرفون القراءة بما فيه الكفاية. ففي أعين المجادل، الذي تتحمل حياته كلها رهان خدمة الخير، ليست جميع "المحاورات" إلا مجموعة تمارين، مجموعة نماذج."12

من الواضح جدا، إذن أن منتهى البحث الجدلي يتحدد بحسب تطوره، وأن تأمل الأفكار ليس من هذه الحياة. ومع ذلك، فإن الجهد الفلسفي، مهما كان ناقصا، وحتى إذا ما حكم عليه بالبقاء في البداية الدائمة للنموذج، هو أفضل حياة ممكنة بالنظر إلى أنه ينزع القيمة على ما هو أفضل في الإنسان.

من هذه الوجهة، تعتبر دراسة المحاورات الأفلاطونية مع تلاميذ القسم النهائي ضرورية دائما. فهي تمكن في العمق من فهم سبب كون التفكير في الفلسفة هو المهم دائما أكثر من الأجوبة التي يمكن أن توخيها للأسئلة التي نتطارحها. إذن لن يتفاجأ أحد مطلقا بأن أغلب المحاورات الأفلاطونية هي محاورات" سجالية"aporétiques..3-

توظيف المثال في إطار الدرس الفلسفي.

أ- درس الأستاذ

ما قلناه حول استعمال الفلاسفة الكبار للمثال، ينطبق على درس الفلسفة. فليس المثال مجرد ضيف يرحب به، وإنما يجب أن يشكل دعامته. يتعلق الأمر في الواقع، دائما، بتفضيل هذه العلاقة الجدلية بين المفهوم والمثال التي يوضح فيها كل منهما الآخر. فإذا كان الضوء يصدر في البداية من المثال، فإنه قد يحصل كذلك أن نظرية تم فهمها جيدا تمكن، رجعيا، من تعميق المثال، وأن تقدر فيه جميع النتائج، وبذلك العودة إلى الفكرة الرئيسة بمعرفة أكثر دقة وأكثر جودة بالقضية. من هذه الزاوية، يبدو أن المثال يتطلب إعدادا خاصا.

يجب أن ينصرف جهد إعداد الدرس، أولا، إلى اختيار الأمثلة. وانطلاقا من هنا، سواء استعدنا الأمثلة الشهيرة المقتطفة من الأعمال الفلسفية أو أنشأناها نحن لإبراز هذه النظرية أو تلك، فالمتطلبات، في جميع الحالات، تكون هي نفسها: البساطة، التمثيلية والشيوع. Popularité فالشيوع كما يراه كانط، هو الوسط المعتدل بين طرفين : بين السذاجة mondanité والغلو pédantismeقرينها المقابل. فالغلو وهو الانحراف المدرسي scolastique عن الوضوح الخطابي، أي ذلك الناتج عن المفاهيم، والذي يترجم، من بين ترجمات أخرى، عبر الاهتمام المفرط بالصيغ (التظاهر بالصرامة (affectation de solidité. وهنا يتحفظ ألان Alainعلى الرجوع إلى القاموس التقني للفلاسفة في بداية الدرس، لأنه، من غير المنطقي، القول أنما يهم أحدنا يتعذر قوله في كلام الآخر. أما الشيوع فهو انحراف ساذج لمطلب الوضوح الحدسي والذي يترجم، بالطبع، بتوجه خاطئ نحو الأمثلة، التي يقع خلطها مع الشروح البسيطة."13 يتفاعل تدريس الفلسفة مع طبيعة المسار التربوي. فلا يتعلق الأمر بتدريس أفكار عامة، وهي الطريقة الأفضل لتحويل التلاميذ إلى ببغاوات، في أفضل الحالات، وإلى أشباح في أسوأها. لا يتعلق الأمر أيضا بتفضيل مبالغ فيه للتجربة، بتعديد الأمثلة من كل الأنواع، حتى تلك التي يقدر التلاميذ على اقتراحها. لأن هذا الأمر من شأنه أن يفقد المعنى وأن يعترف بالفكرة التي ترى في الدرس الفلسفي مجرد مواجهة بين الآراء المختلفة. لذلك فإن الشيوع يتحدد في بناء مسار يسمح لعقل “مشترك لكنه سليم"، أن يصوغ بكامل الوضوح ما يدركه، في البداية، كمعطى ملتبس. للفلسفة، كما قلناه سلفا، دور زيادة فهمنا للعالم وللظواهر المعقدة التي تكونه بداية. فما على أستاذ الفلسفة أن يقوله يجب أن يقوله في لغة واضحة ومفهومة، صارمة في مسارها لكي يتجنب الوقوع في البساطة الساذجة، ويتجنب بذلك الاستعمال المفرط للمعجم التقني. من وجهة النظر هذه، يبدو الرجوع المحكم إلى المثال بالنسبة لنا، أمرا رئيسيا.

روافد الأمثلة،

إذا كانت مصادر المثال موجودة، بشكل مسبق، في الحياة اليومية، بشكل يستطيع كل منا التعرف عليها يمكن كذلك استدعاء الأمثلة الأدبية. في هذه الحالة الأخيرة، تمكن العودة إلى الخيال في الغالب من تأكيد، وربما تفخيم بعض التصورات لتصبح أكثر بروزا، وبذلك نشر فكرة أو تصور نظري بصورة تامة. فهكذا اشتغلنا، خلال درس خاص بمشكلة الخلود، على أطروحة يدافع عنهاFerdinand Alquier في كتابه، الرغبة في الخلود.

تتميز بعض المسيرات البشرية برفض وجداني للزمن. هكذا الأمر في العاطفة والعادة. يبين أليي، فيما يخص العاطفة، بأن رفض الزمن، في هذه الحالة، يجد مصدره في الماضي. ولكي يدعم هذه الفكرة استند إلى نص ل Gérard Nerval، بعنوان Sylvie، يبرز الروابط التي تجمع الحب بالماضي.

يحب نيرفال، في هذه الرواية، ممثلة تدعى أوريلي. عندما كانت خارجة من عمل فني حيث كان ذاهبا لرؤيتها دخل إلى أحد الفضاءات. وهو يتصفح جريدة، وجد فيها مقالا: "عيد ورد المدينة"، أوقد فيه ذكرى مدينته. هذه الذكرى أقلقته الليل كله. فلقد رأى نفسه في حفلة ببلدته مع صديقته سيلفي. غير أنه في ذلك النهار ستأتي أدريان، البنت الصغرى لأحد أصحاب الحصون. مثل الممثلة، كانت سيلفي تغني وأمام الجمهور. مثل الممثلة، كانت بعيدة، جميلة، متعنتة، تضيئها أشعة القمر مثل أضواء المسرح. استرجع جيرارد دو نيرفال هذه الصور:

" وهي تغني، يتحدر الظل من الأشجار الكبيرة، و نور القمر المتولد يسقط عليها لوحدها، منعزلا عن دائرتنا المنتبهة". كانت هذه الذكرى كافية لتوضح حبه للمغنية:" كان كل شيء واضحا لي بهذه الذكرى الصغيرة. هذا الحب الواسع وبدون أمل لامرأة المسرح هذه، التي تأخذني كل مساء إلى ساعة الحفل، لألا تفارقني إلا وقت النوم، يجد نواته داخل ذكرى أدريان، وردة الليل المضيء على ضوء القمر الخفيف، شبح وردي وضاء ينزلق على العشب الأخضر المبلل ببخار أبيض."14

إن التصور الذي يتبدى ههنا فريد من نوعه. وهو يكتشف الحقيقة، وقد يضيع بذلك حبه لأوريلي، سيحاول نيرفال، لإنقاذه هذا الحب، أن يوحد بين الشخصيتين، ويقتنع بأن أدريان والممثلة ليسا إلا شخصا واحدا. غير أن المحاولة ستفشل وسيضطر نيرفال إلى الاعتراف بأنه لا يحب في أوريلي إلا ماضيه هو.

يمكننا أن نعارض بالطبع أطروحة أليي ونبين بأنه من الاختزال التأكيد بأن كل حب وبالتالي كل عاطفة، لها مصدر في الماضي. لكن في الاقتصاد العام لهذه الأطروحة، تمكن الإحالة إلى نص أدبي، حتى فيما وراء طابعه الذاتي، من منحها قوة وحضورا لم يكن لتحصل عليه بلا شك بمثال متفق عليه. فكما يناصر ذلك أليي فإن نص نيرفال له حسنة تحديد “طبيعة الخطأ العاطفي، على الأقل".

من المناسب أن نفحص عن قرب العلاقات التي تجمع بين الأدب والفلسفة في هذا الطور من دراستنا. فإذا كانت بعض الروايات تحمل رسالة فلسفية، كما هو حال رواية الدوار Nausée لسارتر، فإن نقطة البداية وتطور الحكاية نفسه، يتميزان بخصوصية أدبية واضحة بالنظر إلى أنهما يصفان تجربة معيشة. لكن هذه التجربة، وهنا كل الفائدة في هذا النوع من الروايات، تقدم نفسها كنموذج للواقع الإنساني في عمومه. إن هذه الدلالة الكونية هي التي تمنح التجربة أهمية فلسفية. " ولعل هذا هو ما ينفصل به الأدب الفلسفي عن الأدب الروائي أو المسرحي المحض، الذي يمثل أفرادا منخرطين في وضعيات أو أنشطة مفردة أو خاصة بهم. وبالتأكيد فإن أبطال نشاط ما هم بدون أهمية إذا لم تكن لأفعالهم صلاحية عامة. هم إذن ممثلون représentatifs ولكن فقط لجانب أو لحظة من الواقع الإنساني"15. مع ذلك يمكن أن نتساءل" هل الوصف الذي يظهر تجربة جد فردانية كتجربة كونية (مثلا تجربة Roquentin في رواية الدوار ل Sartre) ليس في الحقيقة إلا وصفا مغشوشا؟"16. كما أن القول بأن كل تجربة هي تجربة فردانية وأن" الإنسان الكوني هو تجريد فارغ" حكم صحيح أيضا. إذا كانت الأمثلة السارترية، وكما أشرنا سلفا، في الوجود والعدم، تسمح للمفهوم أن ينكشف بكل قوته، فإنه يمكننا أن نشك، بالفعل، في المسار الذي يقوم على كتابة رواية كاملة لإبراز أطروحة فلسفية. هذا المسار جد ملزم سواء بالنسبة للرواية نفسها لأنه يفقدها عفويتها الإبداعية، أو بالنسبة للفكر الفلسفي الذي يفقد الكوني في الخاص. علاوة على ذلك، يجب أن نتفق على أن الدوار رواية عظيمة (استثناء يؤكد القاعدة)، غير أن هذه العظمة لا تدين بها لتطلعاتها "الفلسفية".

يشير كورينا Michel Gourinat إلى" أن الأفكار التي تكون مصدر الإبداع الأدبي لا تعبر إلا عن نوايا، تتجاوز على العموم بغنى الإبداع. ففي نهاية رواية" البحث عن الزمن المفقود" Recherche du Temps perdu الهائلة، يعلن بروست Proust، في الزمن المستعاد" Temps retrouvé، عن فلسفته الخاصة بصدد العلاقات بين العمل الفني والزمن: وهي فلسفة تختلف عن الأحكام المسبقة لفلسفة بروست. فالتعبير عن فكرة مجردة بصورة سابقة عن العمل الإبداعي، يغفل، إذن، عن حقيقة إسهام هذا العمل في الفكر، ويقلب الصلة الحقيقية بين الفن والفلسفة. لا يقوم الفن على منح أمثلة محسوسة لحقائق عامة. بل ينطلق من الواقع الملموس، لكي يستنتج منه، بعملية إنتاج حقيقية، أفكارا وحقائق جديدة. إذ في هذا يوجد شيء من الفلسفة."17

هذه النقطة الأخيرة أساسية جدا وتمكن، بطريقة ما، من توضيح المسار الذي يعتمد على استعمال مثال أدبي في محاولة أو درس فلسفي. فمن خلال طريقين، سواء نوظف مقطعا في رواية يهم مباشرة التفكير الفلسفي (مثال تأملات بروست حول الزمن في آخر رواية البحث هن الزمن المفقود) أو نحيل إلى نص أدبي، يسمح، بحسب نوعية وغنى التجربة المعيشة التي ينقلها، بإعطاء محتوى قوي لأطروحة فلسفية. كما هو الحال في استعمال أليي لمقطع من رواية جيرارد دو نيرفال.

إن الأدب، لما كان متجذرا في الحياة، في الواقع الملموس، ويستطيع بواسطة حركة كتابة مبدعة أن يجلي منها كل فردانيتها، فإنه خزان للأمثلة الناطقة. لذلك فلاستبانة الصلات بين الإدراك والخيال والحلم، ليس هناك، بلا ريب، مثال أفضل من مقطع “المصباح السحري" «La lanterne magique» في بداية البحث عن الزمن المفقود. بالطبع، كل هذه المرجعيات ذاتية وتشهد بالتأكيد على الكيفية التي يرى بها كاتب العالم، أكثر من شهادتها على كونية الواقع الإنساني. ومع ذلك، فكل واحدة من هذه التجارب المفردة تقول لنا شيئا عن الإنسان، أي عنا، وتسمح بمعاودة إطلاق بحث مفتوح باستمرار. فإذا كانت الفلسفة والأدب مختلفان، يمكننا القول، من هذه الناحية، أنهما متكاملان.

من الممكن أيضا، في حدود معينة، توظيف بعض الصفحات الروائية تتميز بكونها أعمالا خيالية صرفه، وحتى ذات الطابع الأسطوري، لإبراز مفهوم معين. غير أن العملية تكون هنا أكثر صعوبة من الحالة السابقة لأن الأمر يتعلق بما هو أكثر من الاستيعاب، ونتيجة لذلك يتعسف على المعنى قليلا. وهو مسار يحيل على التأويل أكثر من الإيضاح المباشر. هكذا، لكي يفهم التلاميذ معنى العادة l’habitude، اعتقدنا أن من الجيد توظيف مقطع من رواية ل      Raymond Roussel، عنوانها Locus Solus. فلقد أردنا أن نبين بأن العادة تتميز بإفقار للواقع وبنفي للمستجد وللاختلاف. هكذا، فإن العادة، عند مواجهة مواقف جديدة، تمظهر نفس السلوك. فهي تتحفز في ذلك، أكيد، بقلق أمام المآل وشكوكه. وبالتالي يقع تخليد الماضي لكي تأخذ الحياة طابعا مطمئنا: فما هو قائم سيظل إلى الأبد. حسب أليي، فإن العادة مثل العاطفة تجبرنا على العجز والسلبية.

تصف رواية روسل Roussel نزهة طويلة، يمكنها أن تؤشر على مسار طقوسي، يقترح فيه، العالم الكبير مارسيال كانتريل Martial Canterel، في كل مرحلة من المراحل السبعة، على أصدقائه المعجبين مشاهدة واحدة من عجائب الدنيا السبع التي عرفها وأبدعها وحافظ عليها في حديقة. Locus Solus فالآلات الرائعة التي أبدعها العالم، و التي تؤدي عمليات معقدة و متقاطعة بإتقان، صممت جميعها على نمط الحركة المستمرة. ولعل الحلقة الأروع في الزيارة هي بدو ن جدال هي زيارة الخزانة حيث يبدي الموتى، بفضل سائل يسمى «la résurrectine، مظاهر الحياة، لكي يكرروا على الدوام المشهد الرئيسي في حياتهم الماضية. يظهر لنا أن هذا المقطع يمثل العادة في كاريكاتوريتها. فهو يشهد، فيما نتصور، على خوف شبه عصابي من الشيخوخة والموت والمجهول. إن الحركة المستمرة لهذه الحياة المصطنعة، المهيأة بشكل مصطنع، التي تجري ميكانيكيا، ليست شيئا آخر غير استعارة لما يمكن أن يكون عليه وجود منغلق في الخيال، منطو على ذاته، عقيم وفارغ. هنا، لا انحراف ممكن، لا مفاجأة تطرأ لتزعج نظاما تابتا. كل شيء يتشابه على الدوام، إلى الأبد. يساق الماضي إلى اللانهائي، بشكل منهجي ونمطي.

لن يفاجأ من يعرف حياة روسل، إلا قليلا بهذه الرؤية. فحياته كانت حياة وحدة وانعزال، وكأنها أمر مقدر. يفسر اشمئزازه ولا مبالاته من الواقع كخواف من الدنس والإهمال أكثر من تفسيره بالعادة، المرتبطة ذاتها بحنينه للطفولة وفزعه من الشيخوخة. نتذكر كذلك الحلقة التي يتحدث عنها في كيف كتبت بعضا من كتبي Comment j'ai écrit certains de mes livres، حيث سنكتشف بأنه قام برحلة حول العالم في قارب، دون أن يخرج من مقصورته مطلقا ليجد، مع ذلك ملجأ في الأدب. على الرغم من أن أعماله لم تصادف نجاحا، عندما نشرها خلال حياته على حسابه الخاص.

إن الذي يهم، في التصور الذي يشغلنا، هو أن يستطيع التلاميذ انطلاقا من هذا النص (يحب أن تسير القراءة من الأستاذ) إنهاء فهم المفهوم، المدمج هو نفسه داخل أطروحة أكبر. من المؤكد أن نصا كهذا لا يمكن إلا أن يثير انتباه التلاميذ، وبالتالي إعادة موقعتهم في المنظور العام للدرس هو ما سنستغله لنثير مباشرة بعد ذلك مشكلة عويصة.

الإنشاء الفلسفي La dissertation

ليس هدفنا في هذا الجزء هو أن نقترح منهجية للإنشاء الفلسفي، وإنما الإشارة إلى بعض النصائح الممكن إعطاؤها للتلاميذ فيما يخص توظيفهم للأمثلة في أعمالهم الكتابية.

فما هي المكانة التي يحب أن يشغلها المثال داخل إنشاء فلسفي؟

تمر الإجابة، بداية، بتوضيح الأخطاء التي يجب عدم الوقوع فيها في هذا المجال، مما سيمكن فيما بعد من تعيين الصفة الفلسفية للمثال. يكمن الخطأ الشائع في الخلط بين المثال والحجاج Argumentation. ذلك أن تقارير حكام الامتحانات (يمكن أن نقول نفس الشيء عن الباكالوريا)، تؤكد خصوصا على هذه النقطة:

" كثير من الواجبات تخلط بين الحجاج و الإيضاح : فمثال ما أو استشهاد أو تمثل، مهما كان ضروريا ولازما، تبقى عناصر غير فعالة إذا ما اكتفت بتوضيح طرح ما و تغدو مزعجة إذا كانت غايتها الإطناب و الكثرة العددية فقط. يجب أن نذكر هنا بأن الإنشاء يشكل تمرينا بلاغيا في الحجاج والبرهان، وبهذا المعنى يجب على الأمثلة أن تتميز بطابع إجرائي في العرض والبرهنة، وحتى في تحويل أطروحة أو فكرة. فالإيضاح لا يكفي إذن، ما لم يكن موضوع اشتغال حقيقي للفكر أو لم يندرج ضمن دينامية الاستدلال."18

هذه الملاحظة واضحة وتحيل إلى كل ما أشرنا إليه سلفا حول المثال، أي أنه لا يؤكد شيئا، لوحده، وأن عملا مفاهيميا مسبقا أمر ضروري قبل الرجوع إلى حالة خاصة. لذلك يجب تجنب تعداد الأمثلة أو بناء مختلف أجزاء الإنشاء بالاستناد إلى الأمثلة فقط، وكأنها بمفردها تملك قوة برهانيه. "في الحالة الأولى، تحذف كثرة الأمثلة التحليل الفلسفي الحقيقي، أي التحليل المفاهيمي والصارم. وفي الثانية، يبقي الاهتمام المعطى للواقعة المفردة الفكر في الاستثنائي وربما في العرضي. إن الطريقة الصحيحة تكمن في تحليل المثال، أو عدد جد محدود من الأمثلة لتقوية الحجاج."19

خطأ آخر مخالف للأول، يقوم في الإغفال الكلي للأمثلة. فبعض الواجبات (بجب أن نشير إلى أنها أقل من السابقة)، تصل إلى درجة من التجريد يصبح معها الطرح غير مفهوم. والمسألة مع ذلك ببساطة مسألة اختيار الاتجاه الصحيح، أكثر من إبراز التحليل بالرجوع إلى إحالات واقعية، عندما يتعلق الأمر، مثلا، بموضوع حول قضية في العدالة أو الحق، نشير في الأخير بأن الاستعمال الجيد للأمثلة في الكتابة الإنشائية، يرتبط مباشرة بالفهم الكلي لطبيعة هذا التمرين نفسه وفيما وراء المتطلبات الخاصة بأي تفكير فلسفي. إن هذه الرؤية الواسعة للفلسفة هي التي على الأستاذ أن يكونها عند تلامذته وبالتالي استغلال كل الفرص للتذكير بمقتضيات عمل الفكر. بهذا الثمن فقط، يصبح التقدم في مجال الإنشاء، وفي فن المثال، ذا دلالة.

خاتمة

في منتهى هذه الدراسة، من المناسب تسجيل عدد من الملاحظات. أولا، وكما افترضنا سلفا، يبدو أن المثال يمتلك قيمة فلسفية أصلية. من هذه النظرة، فهو غير منفصل عن مسار الفكر نفسه. وبالنسبة لوظيفته البيداغوجية، فهو يأتي كإضافة، من بين أخرى، بالنظر إلى العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والبيداغوجيا. يلعب المثال دورا إعداديا في التكوين الفلسفي، وفي نفس الوقت، يساهم في تشجيع الفكر نفسه. إن العمل البيداغوجي يكون خاطئا، في الحقيقة، عندما تتم الدعوة إلى مسار يتعمد استعمال المثال، لإيقاظ اهتمام التلاميذ فقط، ودون الاهتمام به عندما تنتهي وظيفته.

نسجل، في الأخير، بأن "المثال هو الذي يمنح الدخول إلى النصوص الفلسفية كي لا تكون مجرد وثائق تاريخية. إن النص الفلسفي بمثابة أصبع يشير إلى النجوم؛ فهل ندعو إلى تعليم من ينظر إلى الأصبع، أو ذلك الذي ينظر إلى الاتجاه الذي يشير إليه الأصبع؟ أو ليس هذا هو المعنى الاشتقاقي للتعليم: الإشارة والتوجيه؟"20

  •  
  • Bibliographie

    René CHICHE :
    L'exemple dans le cours de philosophie, in L'enseignement philosophique, n°4-92 p.26 à 41.
    Patrice HENRIOT :
    Article Exemple, in Philo Dicobac 3, questions, Belin.
    Jacqueline RUSS :
    Les méthodes en philosophie. P.122 à 124. Armand Colin.
    Jean-Paul SARTRE:
    L'Etre et le Néant., Première partie, chapitre 2, La mauvaise foi, 2. Les conduites de mauv»
    20

    Bibliographie
    Haut page

    René CHICHE:
    L'exemple dans le cours de philosophie, in L'enseignement philosophique, n°4-92 p.26 à 41.
    aise foi, Tel Gallimard.
    Victor GOLDSCHMIDTT:
    Le paradigme dans la dialectique platonicienne, Presses Universitaires de France, 1947.
    PLATON:
    Hippias Majeur, Politique, Sophiste, Collection de poche G.F. Traduction E. Chambry.
    Ferdinand ALQUIÉ:
    Le désir d'éternité, PUF Quadrige.
    Raymond ROUSSEL:
    Locus Solus, éditions Rencontre, Lausanne.
    Michel GOURINAT:
    De la philosophie. Tome 1. Article Littérature et philosophie, Hachette Université.
    Emmanuel KANT :
    Fondements de la métaphysique des mœurs, Delagrave.
    Article Que signifie s'orienter dans la pensée ? collection de poche G.F.
Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article